الحالة الثانية :
أن يأتي العراف أو الكاهن فيسأل عن شيء، فإذا أخبره الكاهن أو العراف صدقه بما يقول، فالحديث الأول الذي عن بعض أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه: أنه " لم تقبل له صلاة أربعين يوما "
والحديث الثاني فيه أنه: " كفر بما أنزل على محمد "-صلى الله عليه وسلم-
فيتضح بالحديثين أن الحالة الثانية وهي: "من أتى العراف أو الكاهن فسأله عن شيء فصدقه أنه كفر بما أنزل على محمد" -صلى الله عليه وسلم-،
وأنه لا تقبل له صلاة أربعين يوما وهذا الحال يدل على أن الذي أتى الكاهن أو العراف فصدقه أنه لم يخرج من الملة؛ لأنه حدّ -عليه الصلاة والسلام- عدم قبول صلاته بأربعين يوما، والكافر الذي حكم عليه المسلم أو من أتى الكاهن إذا حكم عليه بأنه كافر كفرا أكبر ومرتد وخارج من الملة فإن صلاته لا تقبل بتاتا حتى يرجع إلى الإسلام.
قال طائفة من أهل العلم: دل قوله: فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يوما على أن قوله: كفر بما أنزل على محمد أنه كفر أصغر وليس بالكفر المخرج من الملة،
وهذا القول صحيح وهو الذي يتعين جمعا بين النصوص،
فإن قول النبي -عليه الصلاة والسلام-:" من أتى عرافا فسأله عن شيء فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يوما " يدل على أنه لم يخرج من الإسلام،
والحديث الآخر وهو قوله: " من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد " يدل على كفره، فعلمنا بذلك أن كفره كفر أصغر وليس كفرا مخرجا من الملة هذا أحد الأقوال في مسألة كفر من أتى الكاهن فصدقه بما يقول.
والقول الثاني : أنه يتوقف فيه فلا يقال: يكفر كفرا أكبر ولا يقال: أصغر وإنما يقال: هو كفر إتيان الكاهن وتصديقه كفر بالله -جل وعلا- ويسكت عن ذلك ويطلق القول كما جاء في أحاديث، وهذا لأجل التهديد والتخويف حتى لا يتجاسر الناس على هذا الأمر، فهذا هو مذهب الإمام أحمد في المنصوص عنه.
والقول الثالث من أقوال أهل العلم في ذلك : أن الذي يصدق الكاهن كافر كفرا أكبر كفره مخرج من الملة إذا أتى الكاهن فسأله فصدقه أو صدق الكهان بما يقولون
قالت طائفة من أهل العلم : كفره كفر مخرج من الملة،
وهذا القول فيه نظر من جهتين :
الجهة الأولى : ما ذكرنا من الدليل من أن قوله -عليه الصلاة والسلام-:
" لم تقبل له صلاة أربعين يوما " يدل على أنه لم يكفر الكفر الأكبر، ولو كان كفر الكفر الأكبر لم يحد عدم قبول صلاة بتلك المدة من الأيام.
والثاني : أن تصديق الكاهن فيه شبهة ادعاء علم الغيب أو تصديق أحد ممن يدعي علم الغيب كفر بالله -جل وعلا- كفرا أكبر، لكن هذا الكاهن الذي ادعى علم الغيب كما نعلم أنه يخبر بالأمور المغيبة فيما صدق فيه عن طريق استراق الجن للسمع فيكون إذن هو نقل ذلك الخبر عن الجن والجن نقلوه عما سمعوه في السماء، وهذه شبهة قد يأتي الآتي الذي يأتي الكاهن فيقول: أنا أصدقه فيما أخبر من الغيب؛ لأنه قد جاءه علم ذلك الغيب من السماء عن طريق الجن، وهذه الشبهة تمنع من التكفير، تكفير من صدق الكاهن الكفر الأكبر، فصار عندنا إذن أن القول الأظهر أن كفره كفر أصغر وليس بأكبر لدلالة الأحاديث ولظهور التعليل في ذلك.
قال : " فقد كفر بما أنزل على محمد "-صلى الله عليه وسلم- وهو القرآن؛ لأنه قد جاء في القرآن وما بينه النبي -عليه الصلاة والسلام- من السنة أن الكاهن والساحر والعراف لا يفلحون وأنهم إنما يكذبون ولا يصدقون.
قال : ولأبي يعلى بسند جيد عن ابن مسعود مثله موقوفا وعن عمران بن حصين مرفوعا: " ليس منا من تطير أو تطير له " يأتي في باب ما جاء في التطير أو تكهن أو تكهن له ليس منا: يدل على أن الفعل محرم
وبعض أهل العلم يقول : إن قوله -عليه الصلاة والسلام-: " ليس منا " يدل على أنه من الكبائر، وقال: " ليس منا من تطير أو تطير له" والطيرة من الكبائر " أو تكهن "
يعني : ادعى علم الغيب وادعى أنه كاهن أو أخبر بأمور من المغيبة يخدع من رآه بأنه كاهن، قال: "أو تكهن له "
يعني : من رضي بأن يتكهن له فأتى فسأل عن شيء أو سحر أو سحر له، و " من أتي كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد" -صلى الله عليه وسلم- وهذا كله لأجل أن تصديق الكاهن، فيه إعانة له على الشرك الأكبر بالله -جل وعلا-.
هذا حكم الذي يأتي الكاهن، أما الكاهن فذكرنا حكمه وهو أنه مشرك الشرك الأكبر بالله؛ لأنه لا يمكن له أن يخبر بالأمور المغيبة إلا بأن يشرك.
قال البغوي : العراف الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك، هذا الذي ذكرنا من أن العراف عند بعض أهل العلم من يخبر بأمور سبقت لكنها خفية غيبية عن الناس لكنها من حيث الوجود وقعت في ملكوت الله. قال: " وقيل: هو الكاهن " يعني: سمي العراف يعني: أن العراف هو الكاهن اسمان لشيء واحد. قال: " والكاهن هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل وقيل الذي يخبر عما في الضمير،
وقال أبو العباس ابن تيمية : العراف اسم للكاهن والمنجم ونحوهم" المنجم هو الذي يستخدم علم التأثير يقول: ظهر نجم كذا والتقى بنجم كذا.
فمعناه أنه سيحدث كذا وكذا أو إذا ولد فلان أو إذا ولد لفلان ولد في برج كذا فإنه سيحصل كذا وكذا له من الغنى والفقر أو السعادة أو الشقاوة ونحو ذلك، فيستدلون بحركة النجوم على حال الأرض وحال الناس فيها، وسيأتي تفصيله إن شاء الله
قال : مثل الذين يقرءون الكف ويقرءون الفنجان أو في هذا العصر الذين يكتبون في الصحف والجرائد والمجلات البروج وما يحصل في ذلك البرج وأنت إذا ولدت في هذا البرج معناه سيحصل لك هذا الشهر كذا وكذا، هذه كلها من أنواع الكهانة كما سيأتي.
قال : " وقال ابن عباس في قوم يكتبون أباجاد وينظرون في النجوم: ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق " ذلك؛ لأن كتابة أباجاد والنظر في النجوم يعني: للتأثير نوع من أنواع الكهانة والكهانة محرمة وكفر بالله -جل وعلا-،
بقي أن نقول : إن أصناف الكهانة كثيرة جدا وجامعها الذي يجمعها أنه يستخدم الكاهن وسيلة ظاهرية عنده ليقنع السائل بأنه وصل إليه العلم عن طريق أمور ظاهرية علمية تارة يقول: عن طريق النجوم وتارة يقول: عن طريق الودع أو عن طريق الفنجان أو عن طريق الكف أو عن طريق النظر في الأرض في حصى يجعله أو عن طريق الخشب ونحو ذلك.
هذه كلها وسائل يغر بها الكاهن من يأتيه، في الحقيقة هي وسائل لا تحصل العلم ذاك ولكن العلم جاءه عن طريق الجن،
وهذه الوسيلة إنما هي وسيلة للضحك على الناس وسيلة لكي يظن الظان أنها تؤدي إلى العلم وأن هؤلاء أصحاب علم وفن بهذه الأمور، وفي الواقع هو لا يتحصل على العلم الغيبي عن طريق فنجان أو عن طريق النظر في البروج أو نحو ذلك وإنما يأتيه العلم عن طريق الجن وهو يظهر هذه الأشياء حتى يحصل على المقصود حتى تصدقه الناس بأنه لا يستخدم الجن ولكنه ولي من الأولياء كيف يستنتج المغيبات من هذه الأمور الظاهرية؟.
في بعض البلاد كغرب إفريقيا وبعض شمالها ونحو ذلك وهذا منتشر أيضا في الشرق وفي كثير من البلاد يجعلون من يتعاطى هذه الأشياء وليا من الأولياء ويقولون: الملائكة تخبره بكذا فهو لا يفعل الفعل إلا بإرشاد من الملائكة، فالذين يفعلون هذه الأفعال من الأمور السحرية أو الكهانية عندهم أنهم أولياء؛ ولهذا ترى بعض الشراح يذكر في مقدمة هذه الأبواب أن أولياء الله -جل وعلا- لا يتعاطون الشرك ولا يتعاطون مثل هذه الأمور، فأولياء الله مقيدون بالشرع وليسوا من أولياء الجن. نعم.